2008/11/10

وجهة نظر سودانية :تأثير أزمة جنوب السودان على الأمن المصرى

رغم أنهار العواطف في الحديث عن العلاقات الأزلية بين مصر والسودان، إلا أن مساحة التداخل في دائرتي الأمن القومي في البلدين ترتكز على عناصر مشتركة محددة كانت هي المحرك لاتفاقية الدفاع المشترك، التي وقعها الطرفان في عهد الرئيسين محمد أنور السادات وجعفر محمد النميري، ثم ألغيت في العهد الحزبي الثالث في السودان خلال الفترة من 1986 حتى 1989. ”أكبر أخطاء الإستراتيجية المصرية نحو السودان أنها نظرت إلى التعاطف والولاء كأساس للتعاطي مع الدولة في السودان أكثر من المصالح المتبادلة”وتتركز عناصر الأمن القومي المشترك بين البلدين في محاور محددة، هي المياه والعمق الإستراتيجي الأرضي والفضائي والبشري المشترك بينهما، وفي حين تبدو مصر نشطة وفاعلة في تحريك هذه العناصر بما يخدم مصالحها كان الجانب السوداني متراخيا في تحريك ما يليه من مصالح، حتى باتت النظرة السودانية العامة متوجسة بهواجس الاستغفال التي ولدها طغيان المصالح المصرية على العلاقات الثنائية. مصر.. أخطاء إستراتيجيةفطنت مصر منذ فترة إلى أن اشكالية العلاقة بين جنوب السودان وشماله قد تؤثر على جملة مصالحها في السودان، فحاولت إقامة علاقات متوازنة مع شطري السودان، ففي فترة طويلة في السبعينيات والثمانينيات كانت تقدم فيها منحا مجانية للطلاب السودانيين، وحرصت على أن تقسم هذه المنح بنسبة واضحة بين الطلاب الشماليين والجنوبيين، على فرضية صناعة روابط مستقبلية متعاطفة إن لم تكن موالية، فاستفاد عدد كبير من الطلاب الجنوبيين من هذه المنح المصرية. لكن أكبر أخطاء الإستراتيجية المصرية نحو السودان أنها نظرت إلى التعاطف والولاء كأساس للتعاطي مع الدولة في السودان أكثر من المصالح المتبادلة، وذلك في غياب التمدد إلى عمق الجنوب السوداني حتى خلال ازدهار العلاقات الثنائية في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري، فلم تهتم بإقامة مشاريع أو استثمارات في الجنوب، فالسياسة المصرية قامت على إسترتيجية واضحة تراعي دائما ألا تبدو مصر منحازة ضد أو مع أي طرف في قضية جنوب السودان. لكن ومع تأرجح العلاقات المصرية السودانية خلال فترة الحكم الحزبي الأخير في السودان (1986-1989) ثم الانهيار الكبير لهذه العلاقات خلال العقد الأول من حكم الرئيس البشير تورطت مصر بصورة ظاهرة في تفاصيل أزمة جنوب السودان، فحاولت استيعاب بعض مفردات المشكلة في مقابلة المد الأصولي في السودان، الذي بدأ يهدد أمنها القومي بصورة مباشرة من خلال المساعدات التي كانت تقدمها الحكومة السودانية في النصف الاول من التسعينيات للحركات الاسلامية المعارضة للحكومة المصرية. انخرطت مصر في تقديم مساعدات ظاهرة وباطنة للحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها العسكري الجيش الشعبي لتحرير السودان، في سياق المواجهة مع النظام السوداني الذي أوصل العلاقة إلى حالة العداء السافر المعلن. وانتقلت مصر من حاشية أزمة جنوب السودان إلى المتن، وتقاسمت القاهرة مع أسمرا المنابر الإعلامية التي كانت الحركات المعارضة للنظام السوداني (الشمالية والجنوبية) تستخدمها بكفاءة في المواجهة. أمن مصر.. وهواجس الانفصال وبصورة مجملة صار واضحا أن المواجهة بين النظامين في مصر والسودان خلال التسعينيات طغت على النظرة الإستراتيجية للعلاقات الثنائية، وهو ما حقق للحركة الشعبية لتحرير السودان –دون سائر شركائها في شمال السودان– ميزة سياسية واضحة أدت إلى مزيد من التعقيد في قضية الجنوب، حيث ارتفع سقف المطالبات الجنوبية وأصبح واضحا أن شيطان تقرير المصير في جنوب السودان الذي كانت تخشاه مصر صار حقيقة واقعة وجبلا لا يمكن زحزحته عن مسار أى تسوية أو حل مرتجى لقضية الحرب في جنوب السودان. فقد تأكد تقرير المصير لجنوب السودان في اتفاقية فرانكفورت بين حكومة السودان والفصيل المنشق من الحركة الشعبية (د.رياك مشار ولام أكول) عام 1992، ثم أكدته مقررات أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995 التي أنتجها التجمع الديمقراطي الوطني -الذراع السياسية لتجمع المعارضة السياسية السودانية في الخارج- وأخيرا تم تثبيته في اتفاقية الخرطوم للسلام في أبريل/ نيسان 1997 التي وقعتها الحكومة السودانية مع ست من الفصائل الجنوبية المنشقة عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، وتحولت هذه الاتفاقية (بما فيها من تقرير مصير الجنوب) إلى جزء ملحق بالدستور الذي أجازته حكومة البشير في يونيو/ حزيران 1998. وهكذا حصلت الحركة الشعبية لتحرير السودان على اعتراف بتقرير المصير من كل ألوان المسرح السياسي السوداني. ولم يعد مفيدا الغضب المصري العارم بعد توقيع بروتوكول مشاكوس في 20 يوليو/ تموز 2002 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، الذي نص بصورة قاطعة على حق تقرير المصير وإجراء استفتاء شعبي على ذلك بعد فترة انتقالية عمرها ست سنوات، اكتشفت مصر متأخرة –ولات ساعة ندم– أنها في سياق المواجهة مع النظام السوداني مررت أجندة ربما تصبح الخطوة العملية الأهم نحو انفصال السودان بكل استحقاقات وفواتير هذا الانفصال. المحاولات المصرية للحاق بقطار قضية جنوب السودان التي تجلت في المبادرة المصرية الليبية المشتركة التي قدمتها الدولتان بديلا أو مكافأة لمبادرة الإيغاد الأفريقية فشلت هى الأخرى في استدراك خطأ الإستراتيجية المصرية في قضية جنوب السودان، وأصبح واضحا أن هذه الإستراتيجية تحولت إلى برنامج استيعاب الأمر الواقع أكثر منه التخطيط لمستقبل القضية. صحيح أن السياسة المصرية خلال السنوات الثلاث بعد الإطاحة بسيطرة الدكتور حسن الترابي على السلطة حاولت على عجل استدراك هذه الأخطاء، ووصل الأمر حد إعادة العمل باتفاقيات التكامل بين مصر والسودان التي عقدت في عهد الرئيسين السادات والنميري وألغتها حكومة الصادق المهدي في منتصف الثمانينيات، واستخدمت الجامعة العربية في حشد وعود لإعمار جنوب السودان بمشروع مارشال عربي طموح، لكن مصير جنوب السودان لم يعد في كنف هذه الأماني وبدا واضحا خاصة بعد توقيع اتفاق الترتيبات الأمنية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية أن بقاء السودان دولة واحدة أو انقسامه إلى دولتين أصبح قضاء لا يمكن لمصر أن ترده، وإن جاز أن تدعو الله باللطف فيه. وقد استبق هذه النتيجة تصريحات رسمية مصرية (د.أسامة الباز مستشار الرئيس المصري) تؤكد أن مصر وإن حبذت وحدة السودان، فإنها لا تتضرر من قيام دولة مستقلة في جنوب السودان، وحسب تعبيره فإن مصر مثلما تعايشت مع السودان ستمدد علاقات طيبة مع الدولة الجديدة. لكن هذه التصريحات المصرية لا يمكن أن تخرج أبعد من حيز التكتيك اللفظي لاحتواء مزايدات الأطراف السودانية على قلق مصر من احتمالات انفصال جنوب السودان، والواقع أن قيام دولة مستقلة في جنوب السودان لا يهز مصر فحسب، بل دول الإقليم في أفريقيا أيضا، فمصر (هبة النيل) وقضية المياه بالنسبة لها قضية حياة أو موت. أمن مصر.. وأمن النيل مجرى النيل الذي ينبع من أحواضه في أوغندا وأثيوبيا يمر في أطول أجزائه داخل الأرض السودانية، ورغم أن السودان لا يملك التحكم في مناسيب المياه المتدفقة في هذا المجرى فإن حجم استثماره واستهلاكه لهذه المياه يشكل جزءا من المعادلة المصرية من مياه النيل، وقد تنبهت مصر لذلك مبكرا فوقعت اتفاقية مياه النيل الأولى عام 1929 ثم عدلتها عام 1959، وهي ما تزال سارية بل ومحروسة بقدر عال من الحساسية تجاه أي تصريحات تتحدث عن مراجعتها. وصحيح ما قاله د. أسامة الباز من أن مصر تستطيع تأسيس علاقات طبيعية مع الدولة المفترضة في جنوب السودان، لكن هناك فرقا كبيرا بين هذه العلاقة المحتملة والارتباط العضوى المتوفر مع السودان ككل.. فأدوات التأثير السياسي والاقتصادي المباشرة وغير المباشرة التي تملكها مصر على الدولة في السودان تكتسب قوتها من طبيعة الارتباط السياسي مع بعض أركان السياسة في السودان، خاصة الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني. فإذا انفصل الجنوب في دولة مستقلة فالأرجح أن التأثير المصري سيضمحل بعد خط العرض 12 درجة. ولا يعني هذا أن الدولة المفترضة في جنوب السودان ستكون مهددا رئيسيا لمصالح مصر المائية، لأن جنوب السودان بطبيعتة غابات استوائية تتمتع بأمطار لتسعة أشهر في العام ولا تمثل مستهلكا شرها لمياه النيل. لكن قوة السيطرة المصرية على مصالحها المائية تظل محسوبة بنسبة مئوية من مجمل الحجم السكاني والجغرافي لمنظومة حوض النيل، وانفصال جنوب السودان يخرج بجزء مقدر من الحجم السكاني والجغرافي الذي تؤثر عليه مصر مباشرة، فيضعف التأثير الكلي لمصر على المنظومة بصورة واضحة. إسرائيل.. قلب المعادلة وليس صحيحا أن الدولة المفترضة في جنوب السودان ستشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري من زاوية تمديد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، فالنفود الإسرائيلي متوفر في دول حوض النيل الأخرى خاصة أوغندا وإريتريا، ولم يثبت أنه أقلق المصالح المصرية بصورة مباشرة. ومع ذلك فإن خطورة النفوذ الإسرائيلي في جنوب السودان تكمن في قلب معادلة توجه الشمال السوداني (نحو مصر) في مقابل التوجه الجنوبي نحو أفريقيا، إذ ستتأثر بصورة واضحة إذا انفصل الجنوب، وستحظى الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة بنفوذ غير مباشر في شمال السودان بحكم الروابط العضوية بينه وبين الدولة الوليدة في جنوبه. ليس أمام مصر في الفترة المقبلة إلا أن تتحرك في المساحة المؤمنة لضمانات الوحدة خلال عملية تقرير المصير, فرغم أن الاستفتاء على ذلك سيحدث بعد ستة أعوام من توقيع اتفاق السلام في السودان فإن مخاطر حدوث انفصال مبكر واردة بشكل كبير، خاصة بعد خروج الجيش الحكومي السوداني من الجنوب خلال عامين ونصف بعد توقيع الاتفاق حيث ستصبح بعدها خيارات الانفصال أو الوحدة رهنا بالتزام الأطراف بالاتفاقية دون أي ضمانات قهرية أخرى.
عثمان ميرغنى :كاتب سودانى المصدر:الجزيرة نت

ليست هناك تعليقات: